"لغة العصر".. لماذا علينا تعليم أطفالنا البرمجة؟
"كل لسان يساوي إنسان".. يُمكن اعتبار هذا المثل التركي في محله، إذ يشير إلى أهمّية اللغة في حياة البشر، وأن الإنسان حين تعلّمه لغات أُخرى، فإنه يفتح بها آفاقا جديدة ومساحات أرحب، ويكتسب خبرة لا مثيل لها.
تلك النظرة ما تزال صحيحة في وقتنا الراهن، صحيح أن الصيحات اختلفت قليلًا، لكن الشركات التقنية الكُبرى تُبرهنها يومًا بعد يوم، فلغة المُستقبل هي البرمجة التي تبذل من أجلها شركات بحجم غوغل وآبل ومايكروسوفت الكثير من الجهود لإيصالها للأطفال الصغار قبل الكبار، أملًا في إعداد جيل بلسان يتحدّث لغات المُستقبل بطلاقة.
حرصت شركة آبل على تطوير بيئتها البرمجية الخاصّة المعروفة باسم "إكس كود" (Xcode)، وتلك بيئة اعتمدت بشكل رئيسي على لغة "أوبجيكتيف-سي" (Objective-C) التي يحتاج المُطوّر لإتقانها أولًا لتطوير تطبيقات لأنظمة تشغيل الشركة المُختلفة، "ماك أو إس" (macOS) و"آي أو إس" (iOS) على سبيل المثال لا الحصر.
مع مرور الوقت، أيقنت آبل أن تلك اللغة أصبحت قديمة جدًا وبحاجة لتغييرات شاملة لتتماشى مع لغات العصر، ومن هنا قدّمت لغة "سويفت" (Swift) في 2014 لتُصبح اللغة الجديدة المُفضّلة لدى آبل أولًا، ولدى المُبرمجين ثانيًا، بفضل أساسياتها البسيطة وأسلوب كتابتها المرن.
تلك الميّزات لم تكن عشوائية، فشركة آبل لم تضع المُطوّرين الكبار نُصب أعينها فقط، بل وضعت الأطفال الصغار هدفًا رئيسيًا، فتربية جيل جديد يُتقن مفاهيم البرمجة سيُساهم في إنشاء مُجتمعات قوية جدًا مواكبة للعصر. وبناءً على ذلك، قدّمت الشركة ما يُعرف بـ "سويفت بلاي غراوندس" (Swift Playground) (1)، لتكون بذلك ملاعبها الموجّهة نحو الأطفال لتعلّم البرمجة، وهي عبارة عن تطبيق مجاني متوفّر لحواسب "آيباد" اللوحية فيه مجموعة من الدروس التفاعلية للأطفال لفهم المنطق البرمجي ولتعلّم البرمجة عن طريق اللعب فقط(2).
قسّمت الشركة الشاشة الرئيسية لأي درس لقسمين، الأول يحتوي على لعبة تفاعلية تطلب من المستخدم نقل الشخصية الكرتونية من نقطة للثانية، والثاني على مجموعة من التعليمات مع مساحة خاصّة لكتابة الكود البرمجي. في الدرس الأول على سبيل المثال، يُطلب من اللاعب نقل الشخصية ثلاث خطوات للأمام ثم أخذ الجوهرة لإتمام المرحلة. في الوضع العادي يُمكن تحريك الشخصية بالإصبع أو عبر لوحة المفاتيح، لكن هنا يحتاج المُتعلّم لكتابة الكود البرمجي الخاص بنقل الشخصية ثلاث خطوات، وأُخرى لجمع الجوهرة. وبهذا الشكل، يحصل على الفكر البرمجي بشكل تدريجي.
مع مرور الوقت تزداد درجة تعقيد الدروس وتختلف المهام بذلك، لكن الغاية الرئيسية هي تعليم الطفل التفكير المنطقي وجعل بعض المفاهيم البرمجية أمر مألوف، لتطلب منه بعد ذلك كتابة تفاصيل التعليمات البرمجية بشكل يدوي؛ في البداية كانت تعليمات الانتقال أو جمع النقاط جاهزة، لكن الطفل سيُصبح بعدها بحاجة لكتابة التعليمة بشكل يدوي أي معرفة النقطة الحالية، ثم النقطة التالية، ثم البحث عن الجوهرة وجمعها إن كانت موجودة.
ولكي لا يكون المحتوى جامد، أو محدود داخل شاشة الحاسب اللوحي، تعاونت آبل مع بعض الشركات مثل "ليغو" (Lego) لتطوير رجال آليين وألعاب تفاعلية تتصل بالحاسب باستخدام تقنية "بلوتوث" يتم التحكّم بها أيضًا عبر تعليمات برمجية يكتبها الطفل، لتُصبح العملية مُمتعة أكثر وبنتائج ملموسة بالنسبة للأطفال الذين يُفضّلون هذا النوع من النشاطات. أما من ناحية الخيارات، فهناك طائرة بدون طيّار، ورجل آلي، وكُرة تفاعلية، وخيارات أُخرى تُضاف باستمرار إلى متاجر آبل الرسمية(3).
ولم تنتهي مسؤولية شركة آبل عند هذا الحد، فهي قرّرت توفير بيئة تشاركية اجتماعية بالنسبة للأطفال من خلال مُبادرة "ساعة برمجة" (Hour of Code)، وهي عبارة عن دروس تُجريها في متاجرها المُختلفة حول العالم(4)، بحيث يُمكن للطفل وأهله التوجّه للمتجر والتعلّم من أساتذة ومُهندسين من آبل. كما توفّر كذلك دروس للأساتذة والمُعلّمين الراغبين بتعلّم تلك التطبيقات لنقلها فيما بعد للطلاب الصغار في المدارس المُختلفة، وهذا لنشر الفائدة على أوسع قدر مُمكن(5).
لا تقل جهود شركة غوغل عن تلك المبذولة من قبل آبل، فالشركة توفّر مجموعة كبيرة جدًا من الدروس المجانية للكبار قبل الصغار أملًا في إعداد أشخاص قادرين على الاستفادة من الكم الكبير من التقنيات والمشاريع التي تطوّرها الشركة، خصوصًا نظام أندرويد وحزمة "فايربيز" (Firebase) للتخزين السحابي(6). لكن هذا لم يمنعها أيضًا من العمل لتوفير مناهج موجّهة للأطفال الصغار فقط.
اعتمدت غوغل على المُكعّبات (Blockly) لتعليم المنطق البرمجي، لكنها عكس آبل لم تُقيّد الطالب بلغة برمجة واحدة، فهو سيتعلّم المنطق البرمجي أولًا وبإمكانه فيما بعد الاطلاع على الكود بلغات مُختلفة منها "دارت" (Dart) و"جافاسكريبت" على سبيل المثال لا الحصر. أما ما يحصل داخل المُكعّبات فهو لا يختلف كثيرًا عن ذلك الذي يحدث في ملاعب آبل، فهناك مهمّة رئيسية يحتاج الطفل لإنجازها مثل نقل الشخصية الكرتونية من نقطة للثانية، وبعد ترتيب المُكعّبات البرمجية، يُمكن الضغط على زر تنفيذ للاطلاع على النتيجة ومعرفة الأخطاء من أجل تصحيحها وإنهاء المهمّة بالشكل الأمثل(7).
تلك الأداة تتوفّر على الويب من داخل المُتصفّح، أو كتطبيقات مُنفصلة للحواسب اللوحية العاملة بنظام أندرويد و"آي أو إس" أيضًا. وتعاونت كذلك مع مُختبرات جامعة "إم آي تي" (MIT) لإطلاق تطبيق "سكراتش بلوكلي" (Scratch Blockly) الذي يحمل نفس الفكر، لكن برسومات وشخصيات مُختلفة تتشابه من ناحية الجودة مع تلك التي قامت آبل بتطويرها(8).
ولم تُهمل شركة غوغل مصدر التعليم الرئيسي للأطفال، المدرسة والأهالي، ولهذا السبب أطلقت مُبادرة علوم الحاسب أولًا (CS First) تُقدّم فيها مناهج مُختلفة يُمكن للأساتذة تحميلها وتعلّم البرمجة حتى دون امتلاك خبرات سابقة، مع دروس وتمارين يُمكن تقديمها للأطفال، وبالتالي تُصبح عملية الأستاذ هي الإشراف فقط وتصحيح الأكواد بناءً على المستندات التي توفّرها غوغل. كما يُمكن للأهالي أيضًا القيام بنفس الأمر من خلال مناهج مُعدّة خصّيصًا لهم(8).
أخيرًا، ولأن التجربة النظرية أو المحدودة في الحاسب قد لا تنفع دائمًا، نقلت الشركة مُكعّباتها من الحاسب إلى العالم الحقيقي من خلال توفير دارة كهربائية رئيسية وأُخرى فرعية يقوم المُتعلّم ببرمجتها ووصلها مع بعضها البعض لتنفيذ مهام مُختلفة، فكُلّما كانت المُكعّبات أكثر، كلما حصل الطالب على دارة كهربائية بمهام متنوّعة. هذا المشروع معروف باسم "بروجيكت بلوكس" (Project Bloks)، ويُمكن للجهات التعليمية التقدّم بطلب للتعاون مع غوغل جنبًا إلى جنب وتقديم حلول تُلائم الأطفال والراغبين بدخول هذا المجال(9).
لم يكن اختيار كل من غوغل وآبل للألعاب عشوائيًا، فالأطفال بحاجة لشيء يجذبهم من جهة، وسبق لهم التعامل معه من جهة أُخرى، ففي مُعظم الألعاب الموجّهة للفئات العمرية الصغيرة يحتاج اللاعب لنقل شخصية كرتونية من مكان للآخر، ولجمع النقاط التي تأتي بأشكال مُختلفة من أجل إتمام المهام. وهذا يُفسّر كذلك اعتماد شركة مايكروسوفت على نفس المفهوم في مُبادراتها الموجّهة لتعليم البرمجة للأطفال(10).
اختارت مايكروسوفت لعبة "ماين كرافت" (Mine Craft) الشهيرة كوسيلة لتعليم البرمجة، فاتحة المجال أمام الطفل لاختيار شخصية من اللعبة قبل البدء، لنقلها فيما بعد من مكان للآخر لتزداد المهام صعوبة مع مرور الوقت. كما يُمكن تصميم مُغامرات (مراحل) خاصّة باللعبة، أو تصميم خرائط للعب فيها، بحيث يشعر المُتعلّم بأنه يُساهم في اللعبة التي يُفضلّها، الأمر الذي سيُحفّزه على الاستمرار في التعلّم والتطوّر أكثر وأكثر. وبالحديث عن التحفيز، توفّر الشركة مقاطع فيديو مُختلفة تظهر فيها شخصيات مثل "مارك زوكربيرغ" أو الرئيس الأمريكي السابق "باراك أوباما"، يتحدّثون فيها عن أهمّية البرمجة وعن المجالات التي تفتحها(10).
في نفس الوقت، تسعى الشركة للوصول لأكبر شريحة مُمكنة. ومن أجل ذلك، توفّر جلسات تعليمية في متاجرها المُختلفة تمامًا مثل آبل، مع توفير خيار تسمح فيه للهيئات الراغبة باستضافة تلك الورشات بالتقدّم بطلب رسمي. كما توفّر أيضًا مناهج للطلاب، والأساتذة، والمنظّمات الغير ربحية، إضافة إلى الأهالي، وهذا لنشر ثقافة تعليم البرمجة بين الفئات الراغبة في دخول هذا المجال دون قيود(11). وإضافة للسابق، تُجري الشركة مكالمات جماعية عبر "سكايب" في محاولة منها لإثارة اهتمام الأطفال ودفعهم على الاستمرار في هذا النشاط أملًا في إعداد جيل يُتقن التفكير المنطقي البرمجي الذي أصبح جزء أساسي. كما تُطلق وسوم خاصّة على تويتر للراغبين في إجراء محادثات حول هذه السلسلة، فتبادل الخبرات والصعوبات التي تواجه الطُلاب أمر هام جدًا(12).
جهود مايكروسوفت في هذا المجال لا تُعتبر حديثة أبدًا، فهي ومنذ 2008 تقريبًا تُطوّر حلول مختلفة منها "سمول بيزكس" (Small Basics)، و"كودو" (Kodu)، وغيرها الكثير. وهي مُستمرّة كذلك في تقديم حلول مُختلفة دون الاكتفاء بـ "ماين كرافت" فقط(13).
في بعض الحالات، تفوق قيمة وعائدات الشركات التقنية ميزانيات دول مُختلفة حول العالم، الأمر الذي وضع على عاتقها مسؤوليات تجاه المُجتمع والبيئة وكأنها هيئة حكومية في بلد ما، فهي تمتلك مُبادرات للحفاظ على البيئة، وأُخرى للمُساهمة في التوعية والعلاج من الأمراض المُستعصية، ليكون تعليم البرمجة خطوة منطقية لإعداد مُجتمعات مُثقّفة حول العالم تُتقن لغة العصر، وتستفيد كذلك من شبكة الإنترنت التي جاءت لتكسر جميع الحواجز وترفع سقف الطموحات.
تعليقات
إرسال تعليق